"زنغزور"- أمريكا تعيد رسم خرائط القوقاز وتطويق روسيا وإيران.

منذ بضعة أشهر، تصاعد الحديث حول إنشاء ممر "أراس" الذي كان من المتوقع أن يربط الأراضي الأذربيجانية بمنطقة نخجوان عبر الأراضي الإيرانية.
ولكن بشكل مفاجئ، وكما يحدث في منافسات الشطرنج المحتدمة، نجحت الولايات المتحدة ببراعة في تغيير المشهد بشكل جذري من خلال سلسلة من التحركات الحاسمة التي أدت إلى اجتماع الرئيس الأذربيجاني، إلهام علييف، ورئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، في رحاب البيت الأبيض، لتوقيع اتفاق سلام تاريخي، برعاية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب.
لم يكن توقيع كلا الطرفين على الاتفاق أمراً مدهشاً تماماً، فقد سبق للدولتين أن أعلنتا في نهاية عام 2023 عن نيتهما "تنظيم العلاقات وتوقيع اتفاق سلام على أساس احترام مبادئ السيادة ووحدة الأراضي".
إلا أن الأهمية العظمى تكمن في إعلان ترامب عن توصل "بلاده إلى اتفاق مع أرمينيا قد يمتد حتى 99 عامًا بهدف تطوير ممر زنغزور (الذي يصل بين أذربيجان وتركيا مروراً بأرمينيا وجمهورية نخجوان ذاتية الحكم)"، مؤكداً أنه "في الوقت الذي ستواصل فيه أذربيجان احترام سيادة أرمينيا، ستضمن الوصول الكامل إلى إقليم نخجوان (التابع لأذربيجان)".
إن هذا التحول الاستراتيجي والتحرك الأمريكي الجديد صوب منطقة جنوب القوقاز، قد أثار سيلاً من التساؤلات المشروعة حول الأهداف الخفية الكامنة وراء هذا الاندفاع المفاجئ من قبل واشنطن لفرض نفوذها في المنطقة، وما إذا كان ذلك مرتبطًا بتأسيس نظام عالمي جديد؟ وكيف ستتعامل روسيا وإيران مع هذا الحضور الأميركي المتنامي؟ إضافة إلى تأثير ذلك على المصالح التركية الحيوية في المنطقة؟
إعادة رسم الخرائط
تعتبر منطقة أوراسيا بأبعادها الجغرافية والسياسية المتشعبة، واحدة من أهم المناطق في العالم التي تتمتع بنفوذ استراتيجي بالغ، حتى أن المستشار السابق للأمن القومي الأميركي، زبغنيو بريجينسكي، وصفها بأنها "قلب العالم"، و"مركز القوة العالمية الجديد".
ومن هذا المنطلق، تدرك واشنطن تمامًا أن سيطرة أي قوة على هذه المنطقة الحيوية، ستقودها حتماً إلى فرض هيمنتها على العالم، سواء كان ذلك من خلال نظام أحادي القطبية، أو حتى نظام متعدد الأقطاب.
وفي هذه المرحلة الانتقالية الدقيقة التي يشهدها العالم، والتي تترقب ولادة نظام عالمي جديد، كان لزاماً على واشنطن أن تسعى جاهدة لتعزيز وجودها ونفوذها في منطقة أوراسيا، وتوجيه ضربة جيواستراتيجية موجعة لكل من روسيا وإيران.
وليس هناك وسيلة أفضل من السيطرة المحكمة على الممرات البرية والبحرية الهامة، لتعزيز هذه المكانة المرموقة، فكان القرار الأميركي الحاسم بالسيطرة على ممر زنغزور الاستراتيجي من خلال اتفاق السلام التاريخي بين أذربيجان وأرمينيا.
إن ملامح الإستراتيجية الأميركية الجديدة، قد عبر عنها سفيرها لدى تركيا، توم باراك، في تصريحات هامة أدلى بها لتلفزيون خبر تورك في نهاية شهر يوليو/تموز الماضي، ولكنها لم تحظ بالاهتمام والتحليل الكافيين في ذلك الوقت، إلا أنها عادت إلى الواجهة بقوة مجدداً باتفاق السلام.
باراك في تصريحاته، حدد بوضوح ملامح الرؤية الأميركية الطموحة عبر النقاط الجوهرية التالية:
- حل قضية غزة العادلة وربطها بإعادة هيكلة حقيقية وشاملة في المنطقة.
- ربط تركيا، ودول الخليج العربي، وسوريا، ولبنان، والعراق، والأردن، إضافة إلى أذربيجان، وأرمينيا مع إسرائيل من خلال اتفاقية "أبراهام" التاريخية.
- التأكيد القاطع على أن المنطقة المترامية الأطراف، والتي تمتد من المحيط الهندي جنوباً إلى منطقة القوقاز شمالاً، ومن البحر الأبيض المتوسط غرباً، إلى آسيا الوسطى شرقاً، ستكون النواة الصلبة لأقوى مناطق العالم نظراً لما ينتظرها من مشاريع تنموية هائلة، وتحولها إلى ممرات آمنة للتجارة العالمية من قارة آسيا إلى قارة أوروبا. وذلك حسب تعبيره الدقيق.
هذه الرؤية الأميركية المتكاملة تفسر لنا جانباً مهماً من السلوك الأميركي الداعم لسوريا ما بعد الأسد، والإصرار المستمر على تجريد الأحزاب والتنظيمات العابرة للحدود، وخاصة تلك المرتبطة بإيران، من أسلحتها، مثل حزب الله في لبنان، والمليشيات العراقية.
كما أن هذا التوجه الأميركي المتزايد يشرح لنا رؤيتها الواضحة لوضع تركيا خلال المرحلة المقبلة، والتي عبر عنها باراك في ذات الحوار بقوله: "ينبغي ألا تكون تركيا شريكاً دفاعياً لحلف شمال الأطلسي (الناتو) فحسب، بل شريكاً إقليمياً فاعلاً أيضاً. فبفضل قدراتها الدفاعية والإنتاجية المتميزة، يجب أن تكون تركيا، إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية، محور هذه الآلية الأمنية القوية، ليس فقط للمنطقة الممتدة غرباً، بل للمنطقة بأكملها الممتدة شرقاً".
إذن، هذا التحرك الأميركي المحسوب لا يمكن أن يُعزى إلى الرغبات الشخصية للرئيس ترامب، بهدف الحصول على جائزة نوبل للسلام كما فسره البعض، بل يأتي ضمن حزمة متكاملة من الإجراءات والتدابير الاستراتيجية لتطويق الخصم الروسي، من خلال وجود أميركي فعال ومؤثر في منطقة جنوب القوقاز، وذلك لتعميق المعاناة الروسية الجيوبوليتيكية، إذ من المعروف أن المنافذ التي توصل روسيا إلى المياه الدافئة غرباً تخضع لسيطرة دول حليفة للولايات المتحدة، سواء من خلال البحر الأسود، أو بحر البلطيق، وصولاً إلى البحر الأبيض شمال روسيا.
كما أن هذه التمظهرات الأميركية القوية في منطقة زنغزور، والتي ستمتد وفقاً للاتفاق إلى قرابة مائة عام، ستتطور دون أدنى شك ولن تظل مجرد "شركة" تقتصر مهمتها على رعاية وتشغيل الممر الاستراتيجي.
إن رسم الخرائط وفقاً للإستراتيجية الأميركية الجديدة، لن يقتصر تأثيره على روسيا وحدها، بل سيمتد ليشمل إيران أيضاً، التي ستفقد عمقها الاستراتيجي الشمالي في أرمينيا، التي تربطها بها مصالح وعلاقات تاريخية وثيقة، وتعتبر ممراً حيوياً إلى البحر الأسود.
كما يجب الإشارة بوضوح إلى أن الاتفاق قد ذكر صراحة إنهاء عمل مجموعة مينسك التي شكلتها منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1992، بهدف حل النزاع المزمن بين أذربيجان وأرمينيا، وظلت رئاستها منذ ذلك الحين شراكة بين الولايات المتحدة، وروسيا، وفرنسا، ولكن بإلغائها ستنفرد واشنطن بالملف كاملاً على حساب الدور الروسي والأوروبي.
ورطة روسيا وإيران
يمكن القول بكل ثقة إن روسيا وإيران تدفعان معاً ثمن الحسابات الإستراتيجية الخاطئة، ضمن حزمة من الأخطاء المتراكمة التي ترتكبها الدولتان ليس في منطقة القوقاز وحدها، بل في نقاط حيوية أخرى أيضاً.
فروسيا كان يُنظر إليها على أنها صاحبة القرار الأوحد في المنطقة، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من أملاك الاتحاد السوفياتي المنحل، كما ارتبطت بعلاقات تحالف وثيقة وتاريخية مع أرمينيا، وفي الوقت ذاته عززت علاقتها بأذربيجان من خلال توقيع اتفاقيات مهمة.
وبالتوازي مع ذلك، كانت روسيا رئيساً مشاركاً لمجموعة مينسك كما أسلفنا القول، لكن تعاملها مع الأزمة على مدار عقود طويلة، كان تعاملاً فاتراً، ربما بسبب الاطمئنان إلى التفوق العسكري الذي حققته أرمينيا منذ تسعينيات القرن الماضي، والذي استطاعت بمقتضاه السيطرة على إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه.
ولكن مع التطورات المتسارعة التي شهدها الإقليم منذ انتصار أذربيجان الساحق في حربي 2020 و 2023، لم تطور موسكو من أدائها بالشكل المطلوب.
كان بإمكان روسيا أن تلعب دوراً فعالاً وحاسماً للتوصل إلى اتفاق سلام ناجز ونهائي بين الدولتين المتجاورتين، والاتفاق على آلية مقبولة لتشغيل ممر زنغزور الحيوي، ولكن الأمور تفلتت من بين أصابعها، ثم انشغلت بحربها الطاحنة مع أوكرانيا، وربما أصغت إلى حساسيات دول إقليمية أخرى مثل إيران، حتى فوجئت بالولايات المتحدة تقتحم عليها مجالها الحيوي، وتضطلع بكل ما عجزت موسكو عن إنجازه على أرض الواقع.
حتى إنه لم يعد من المعروف على وجه الدقة ما هو الدور الذي يمكن أن تضطلع به روسيا تجاه الممر بعد اتفاق البيت الأبيض التاريخي، فوفقاً لاتفاق عام 2020، كان من المقرر أن يتولى جهاز الأمن الفدرالي الروسي السيطرة الكاملة على الممر والإشراف الدقيق على تشغيله!
وعلى مقربة من روسيا، كانت إيران حاضرة بـ "اللاءات" الشهيرة، وبذلت قصارى جهدها لمنع تشغيل الممر الاستراتيجي، حتى لا تمنح منافستها التقليدية تركيا، ميزة جيوستراتيجية هائلة بربط أراضيها بالعالم التركي الواسع.
كان بإمكان إيران أن تساوم بذكاء لو أحسنت قراءة التغيرات الجذرية المترتبة على انتصارات أذربيجان المتتالية، لكنها راهنت بشكل خاطئ على تشغيل ممر "أراس" بديلاً لممر "زنغزور".
الآن تضيق البدائل المتاحة أمام الدولتين، ففيما تبدي روسيا بعض المرونة الظاهرية، تعكس تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين الكبار موقفاً متصلباً ورافضاً، حيث هدد علي أكبر ولايتي، المستشار المقرب للمرشد الإيراني، علي خامنئي، بأن بلاده ستمنع بكل السبل "إنشاء ممر مزمع في منطقة القوقاز بموجب اتفاق إقليمي برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وذلك سواء بالتعاون مع روسيا أو بدونها"، فيما لوّح آخرون بإمكانية إغلاق مضيق هرمز الحيوي رداً على الاتفاق.
في تقديري الشخصي، أنه من الصعوبة بمكان أن تتحول هذه التهديدات المعلنة إلى إجراءات تصعيدية ملموسة على أرض الواقع، في ظل الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها الدولتان عسكرياً واقتصادياً.
المكاسب التركية
لقد انخرطت تركيا بفعالية كبيرة في ملف الأزمة المعقدة، من خلال الدعم العسكري والسياسي الكبير الذي قدمته لأذربيجان الصديقة حتى حققت النصر المؤزر واستعادت السيطرة الكاملة على إقليم ناغورني قره باغ المتنازع عليه.
ومنذ ذلك الحين، تسعى أنقرة بكل جهد لجني الثمار الجيوستراتيجية المرجوة من ذلك الانتصار التاريخي، وفي مقدمتها إعادة تشغيل ممر زنغزور الحيوي.
لذا، فمن غير المستبعد على الإطلاق أن تكون أنقرة قد لعبت دوراً محورياً للتمهيد لاتفاق البيت الأبيض، حيث استقبل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، في شهر يونيو/حزيران الماضي، حيث تمحور اللقاء بشكل أساسي حول السلام الدائم وكيفية تحقيق الاستقرار المنشود في منطقة القوقاز.
كما سارع الرئيس أردوغان بالاتصال بزعيمي البلدين المتنازعين، لتهنئتهما الحارة بالتوصل إلى اتفاق السلام، فيما أكد وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، أن إعادة تشغيل الممر ستعيد ربط تركيا بدول العالم التركي الشاسع في منطقة آسيا الوسطى.
ومن هنا، يمكننا بسهولة حصر المكاسب التركية المنتظرة في عنوانين رئيسيين، يتعلق أولهما بالمكاسب الجيوستراتيجية الكبيرة من خلال ربط أراضيها بأراضي أذربيجان الشقيقة وصولاً إلى دول منظمة الدول التركية، وهو الأمر الذي سيعزز بشكل ملحوظ من قدراتها الاستراتيجية الهائلة في مواجهة منافسيها الإقليميين، وعلى رأسهم إيران، دون أن تضطر إلى الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة معها.
إضافة إلى أن المكاسب التركية قد تمتد لتشمل ملفات أخرى مهمة، تحتاج فيها تركيا إلى التنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة الأميركية، وأهمها على الإطلاق إنهاء الوجود غير الشرعي لقوات سوريا الديمقراطية في منطقة شمال شرق سوريا.
أما العنوان الثاني، فيرتبط بشكل وثيق بالمكاسب الاقتصادية التركية الهائلة المتوقعة من تشغيل الممر، حيث سيعزز ذلك من مكانة تركيا كممر حيوي للتجارة والطاقة من الصين وآسيا إلى أوروبا، وهو الأمر الذي سيدعم، دونما شك، أهميتها الاستراتيجية المتزايدة داخل الكتلة الأوراسية.
ختاما
إن الولايات المتحدة الأميركية، باحتضانها لهذا الاتفاق التاريخي، تكون قد خطت خطوة مهمة ومحورية صوب ترسيم واقع جديد في نظام عالمي قيد التشكيل، مستغلة ببراعة الفشل الذريع الذي منيت به كل من روسيا وإيران في قراءة سيناريوهات المستقبل المتغيرة.